الثلاثاء، ١٥ أبريل ٢٠٠٨

صمت الآلهة


قصة قصيرة لـ "محمد الشواف"
ظل في مكانه عقودا لايتحرك أو يتزحزح من مكانه حاول كل من مروا عليه اثنائه عن الاستمرار في جلسته الساكنة لكن أحدا لم ينجح في اقناعه بالحراك أو تغيير موضعه حتى أن بقائه على هذه الهيئة طيلة سنين جعلت الأطفال والشباب ممن لم يعاصروه يعتقدون أنه هنا منذ قديم الأزل وأنه إله وجد هنا ولا يتحرك وبدأ الجميع في القرية الصاخبة يعتقدون أنه يحمل سر الخلود وأنه باق في هذا المكان حتى يموت الجميع ويؤت بآخرين غيرهم يرونه في نفس هيئته دونما تغيير.. لا يعلم كثيرون أنه اختار هذا المكان معبدا يظل فيه حتى ينتزع منه سر بقائه وخلوده الذي جعله طيلة هذه الفترة في مكانه أو ينتهي العالم وهو في نفس الوضع ليبدأ الحساب وحتى يصلون دوره سيكون قد استغرق في تأمله وسكونه ويكون كل من يعرفوه قد ذهبوا لملاقاة مصائرهم .
ما لا يعلمه الآخرون أن من اعتبروه إلها كان أعظم عاشقي القرية وأنه كان مضرب المثل بعشقه لمحبوبته في أرجاء العالم الممتد على جانبي النهر العظيم في وسط القرية المقفرة ، فقد كان يجمع بداخله قطرات دم تحمل كل منها رائحة حبها السرمدي الذي خلق هذا المخلوق الغريب "ادونيس" _الاسم الذي أطلقه عليه اهل قريته بعد مكوثه طوال هذا الزمن في جلسته دون أن يغمض له جفن أو هكذا كانوا يعتقدون فهم دائما ما يرونه مفتوح العينين وبها جحوظ ظاهر يضيف الى ملامحه رهبة كفيل بابعاد الغرباء عنه .
كان اسمه قبل ذلك ادم ومنذ مولده والجميع يعرف أنه ليس كباقي الأطفال ممن ولدوا في نفس عام مولده فقد ماتوا جميعا ولم يبق سوى هذا الأدم بشعره البني الطويل وقد غطى مؤخرته وعيناه السوداوين بلمعتهما المخيفة ووجهه الأصفر كمن سحبت منه دمائه ليحيا أخرون عليها . اعتاد الجميع أن ينادوه بالإله وأن يولوه رعايتهم فأمه يوم مولده فقدت بصرها وما هي الا أيام حتى رحلت وسط دهشة الجميع عقب الخراب الذي حل على القرية بمولد أدم الا أنهم أدركوا أنه لا مفر من تربيته حتى يشتد عوده فيخرجونه من بيته ليرحل وياخذ معه هذا الهلاك لأن ترك طفل في مثل عمره كان أمرا ستعاقبهم عليه السماء .كبر وسط قحط شديد وجفاف أصاب القرية وحدها دون القرى المجاورة ورغم ذلك كله ظل حب الفاتنة "ريم" يشتعل في قلبه ويزداد تدريجيا حتى تملك منه وأصبحت الفتاة معبودته التي يهبها جل اهتمامه ويستعد لاراقة الدماء ومداعبة السماء رغبة في رضاها منع الجميع من النظر اليها اصبح ينام ويصحو تحت شرفة منزلها في اطراف القرية منتظرا أن تمرقه نظرة حنونة تبث فيه جبالا من العشق والهيام , تتيم بها حتى ظن أنها الهه وأنها خالدة لن تموت وأن لمسها أمر بعيد المنال فمثل " ريم " لا يلمسون أو يتزاوجون لأنها هبة السماء فقد كانت عيناه مشبعة بزرقة لم يراها القرويون من قبل أو يعتادوا عليه وبياضها كان أشبه بشعاع شهاب يخترق ظلمة السماء في ليلة حالكة السواد فينيرها دون عناء .. شعرها الذهبي الذي لامس أطراف كعبيها كان أشبه بشعاع شمس تسلل من حرقتها ووهجها ليحط فوق رأس ريم فيضيئ العالم أجمع ويعكس ابهارا في العيون .. كل هذا جعل ادم اسير حبها حتى جاء يوم لم يك في الحسبان غابت ريم عن شرفتها ولم تسطع الشمس يومها أو تخرج الطيور من أعشاشها كأن بها وهن أو ضعف يمنعها عن الطيران فوق شرفة الجميلة ، هبت عاصفة تحمل رائحة ذكية أيقن الجميع حينها أنها روح ريم قد غادرت جسدها لتطير في عالمها الخالد وتحرس القرية وتترك ادم ليتحول الى أدونيس العاشق الاله ويظل في موضعه حتى يحين الرحيل لكن ادونيس لم يرحل وريم لم تعد ليظل مكانه بصمته الطويل وكأنه صمت الآلهة.